أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

الناقد والكاتب صلاح يس وقراءه نقديه فى رواية ( المليجي ) للكاتب الدكتور كمال رحيم

احجز مساحتك الاعلانية

الدكتور كمال رحيِّم رجل من عصر ذهبي كله .. نعم .  مضى ولن يعود ، وليس فقط ولكن حتى الحُلم بعودته .. ضرب من المستحيل ..!  وأصبح نادرا ما تقابل مثيله .. إذ يلزم أن تكون أنت محظوظا بشدة ؛ وكنت .. وكانت سنة 2009 وكان اللقاء معه بدار سفنكس للطباعة والنشر عرفني به رجل في نبله وحميميته الأستاذ محمد كامل رحمه الله تعالي . وكانت مناقشة رواية قلوب منهكة في طبعتها الثانية .

          كتاباته لها خصوصية .. سهلة ، أراها ممتنعة أن يكتب روائي أو قاص بهذه السهولة والأريحية .. عمن يحكي .. ولمن يقرأه .   فقد تستعذب عبارة ما أو جملة ما أو تعبير ما .. وتجد لذة في إعادة قراءتها بتمهل .. تستطعم اللفظ وتتلمظ المعنى وتتعجب للسهولة الممتنعة ، وفراسة في اختيار الكلمات والتركيبات ذوات المعنى الغني والإيقاع اللفظي المحبب ، في عامية راقية ومقبولة ..

        قرأت له روايات .. قلوب منهكة ، أيام الشتات و أحلام العودة وهي الثلاثية المعتقة ، تحكي عن واحدٍ من أحياء القاهرة المجيدة .. ( حي الظاهر بيبرس ) . يأخذنا .. فنعايش أسرة مصرية الجنسية / يهودية الديانة ؛ قاهرية الهوى .

***

ثم .. وقرأت تقرير إنساني موجع بعنوان ” لقمة العيش ” مجموعة قصصية صغيرة الحجم هائلة القضايا .. تعرض حالة أزلية واحدة بصور متعددة .. قاتمة لأهلنا بالوجه القبلي خاصة ، والوجه البحري أيضا .. إذ أن الحديث عن الفلاح المصري وأسرته معه . وغبن أزليِّ تعرض له ذلك الإنسان على مر العصور وتعدُد الأنظمة السياسية الحاكمة . يشكو أحيانا .. فما من سميع .. ولا مجيب إلا الله تعالى يلهمه الصبر . فإن الله مع الصابرين .

***

        المليجي .. رواية تقع في 288 صفحة من الحجم المعتاد ، وتنقسم زمنيا إلى ثلاثة مراحل _ حسب ما رأيت _ ( من الفصل 1-5 ، من 6-14 ، 15-38 ) فهي 38 موقف أو سوناتا .. باسمة أحيانا وجادة أحيانا أخري وجاذبة في الحينين معا .

طباعة فاخرة مع مناسبة حجم الخط المريح للقراءة . بغلاف ملون لصورة ذكرى  حميمة من مصر القديمة .. ( قطاع من سور مجرى العيون – فم الخليج ) . ثم الغلاف الداخلي مقابل بيانات الإصدار وصفحة الإهداء الرصين :

(إهداء وتقدير للأديب الكبير يوسف الشاروني) .

***

بظهر الصفحة نفسها ما أبدعه أمير الشعراء أحمد شوقي في رائعته الخالدة ( نهج البردة ).        البيت الخامس والعشرون – من أبياتها المائة والتسعون .

يا نفس دنياك تُخفي كل مُبكية .. وإن بدا لك منها حُسن مُبتسم

ولعل اختيار هذا البيت عمدا .. لأنه يتماشى ويتداخل مندمجا مع حال الأستاذ قناوي .. وحلمه في أن يكون شيئاً …

***

          عندما قرأت الرواية من قبل ، وعلى مراحل تكاد تكون متباعدة بعض الشيء ، ظننت أن كل أحداث الفترة الزمنية الثالثة  منها بداية من.. ( الفصل 15 وما بعده ) هو استمرار للأحداث ، ولم أنتبه إلى أنه ” خيال ” الأستاذ قناوي وحلمه المفتوح العينين .. عندما قرر أن يكتب سيناريو مسلسل ” المليجي “. ووقتها تعاطفت مع المليجي شاعرا بأن المؤلف يحمل عليه ويعنفه .. وقد شعرت أنه يكرهه ..! بدون ذنب ..!

***

        عن أشخاص الرواية .

        لم يأخذنا بعيدا الدكتور كمال .. بل جاءنا ببشر .. ناس نعرفهم حق المعرفة وهم جيراننا بالتأكيد والباعة وأطفال الشوارع كل هؤلاء نعرفهم تمام المعرفة ، فهو قد اقتطع شريحة من حي شعبي تماما قدمها لها من خلال عيني الأستاذ قناوي ومن خلال مشاعره .. مشاعرنا نحن أيضا ، بالضيق أحيانا وبالشفقة أحيانا أخرى وبالغيظ مرات كثيرة .. فهذه هي مشاعر سكان الأحياء الشعبية التي هي خارج أية معقولية ..! وتندهش .. فقط تندهش .

***

أستاذ قناوي وصديقه اللدود الأستاذ عباس ، أصبحا معا من ذوي المعاش المبكر .. فهما معا حول الخمسينيات من عمرهما ولم يبلغا بعد سن التقاعد، فكان المعاش المبكر بعدما اشترى الرهوان المستثمر الخليجي شركتهم .. وأصبح ليس أمامهما إلا الفراغ .

وهما معا متشابهان .. وإن كانا على طرفي نقيض .

***

الأستاذ عباس واحد من آحاد الناس يعيش يوما بيوم ، ولا تشغله إلا المشاغل اليومية .. بالغة العادية . المقهى والشيشة والدردشة وربما قراءة الجرائد ومتابعة السياسة إلى آخر هذه المعطيات لمن هم قد تقاعدوا .. مبكرا أو في الميعاد .

أما الأستاذ قناوي .. فهو حالة خاصة ، بل شديدة الخصوصية ؛ إذ يعتبر نفسه في عداد الأدباء المؤلفين ، ليس فقط ولكن المبدعين ..! وأنه ورث هذه الموهبة ” التأليف والحكي ” عن أجداده في صعيد مصر .

فجده الأعلى الشيخ ” الخربان ” شاعر الربابة المعروف على طول الصعيد وعرضه . ووالده هو أشهر حكاء في ” مركز فرشوط ” . فلطالما أمسك بزمان الجلوس حوله وحكاياه التى لا تنتهي ؛ شفيقة ومتولي ، الأميرة ذات الهمة ، خضرة الشريفة وأبوزيد .. والهلالية ، عزيزة ويونس والبرنس يوسف كمال ، وغيرهم ؛ فالذاكرة عامرة .. ولم تكن تعوزه الحيلة فقد يحدث أن يقول حاكيا أو منشدا من وحي الخاطر والزيادات التي يتطلبها مقتضى القص ويفرضها انتباه المستمعين وتحتمها ميولهم وما يحبون ، ومع شديد متابعتهم لما يقول .

إذن فالجينات الوراثية .. الروائية متوفرة لديه .

وهو نفسه ” الأستاذ قناوي ” قد ألف أو لنقل أبدع خمس روايات .. طبع الأخيرة منهم على الكومبيوتر بعنوان مبتكر ولافت للانتباه ( الذين يغطون في النوم ..!) وقد خرجت في ألف صفحة من القطع الكبير ..! ومر بها على الناشرين . يعرفهم ويعرفونه ؛ فيتجنبونه . فيسأل نفسه .. لم ليس لهم الحس الفني مثل الأستاذ عباس .. ؟ ويتعجب .

فقد كان الأستاذ عباس هو قارئه الوحيد ، وصديقة وزميله في العمل والمعاش المبكر . وكانت صدمته مؤلمة .. فقد اكتشف الأستاذ قناوي ما آلمه تماما .. صديقة ليس أمينا بما يكفي لصداقة وزمالة طويلة وذلك فيما يتصل بما يكتبه من روايات يقرأها فيمتدح ما قرأ ويثني على المؤلف .. ليفاجئه بعد المعاش يقول :

 – دور لك على حاجة تأكلك وتشربك ، بدال ما أنت راكب راسك كده وعامل فييها أديب ..

– عامل فيها أديب .!؟

– أيوه .. عاملي فيها أديب ، عشرين سنة وأنت واجع راسي بالحواديت الفارغة اللي أنت بتكتبها وتقول عليها قصص وروايات وأنا أقول أمري لله بكره يعقل ويفوق .

آلمه كلام صديق العمر وزميل العمل لسنوات طويلة .. آلمه أكثر كثيرا من رفض دور النشر لكل رواية يقدمها لهم . ويتذكر بحسرة ما قاله عباس متراجعا ، وفي محاولة للترضية ..

– وليه لأ .. ما جايز  تكون موهوب وأنا اللي مش داري .

– جايز أكون موهوب ..! هو ده اللي ربنا قدرك عليه ؟ بقى بعد الروايات دي كلها اللي أنا ألفتها وأشي رومانسي وأشي واقعي ، جاي حضرتك دلوقتي … واللا أقولك .. خسارة فيك الكلام. وغادر المكان كله . إلا أنه رغم خيانته .. قد قال شيء معتبر .

***

من بداية رواية الدكتور كمال . ندرك أن بطله رجل حالم ، يعيش في حُلم متصل وعلى التوازي مع حياته اليومية .. ويمكن أن يكون موهوبا حقيقة .. إلا أننا لم نعرف أنه قرأ أي شيء .. فقط يكتب ؛ وهو لم يقرأ ..! ومع ذلك فقد شغلت الجملة الأخيرة من زميله اللدود الأستاذ عباس .. شغلت فكره طويلا ، يقلبها بفكره يقظا ونائما جالسا أو سائرا ( الزق لواحد من بتوع السيناريو ..! ).

وكأنها الفتح المبين . فقد أصبح شاغله الوحيد ” كتابة سيناريو مسلسل “.

وصارت هذه الجملة وتوابعها شاغله اليومي .. وكانت السبب الأساسي في انشغال ذهنه المستمر ، وأيضا كانت هي السبب فيما شجر بينه وبين جاره .. ( المليجي وعمله الأساسي ” تصليح مواقد الكيروسين .. ماركة بريموس) فهوبطل مسلسله .. وفتوة المنطقة حسب ما خطط له ولأتباعه ومساعديه من الرجال .

***

أتصور .. لو كان الدكتور كمال رحيم أشار إلى أن قناوي بحث وسأل وانكب على كتب تعليم كتابة السيناريو ، أو الحلقات التليفزيونية .. لكانت الرواية آخذة لمجرى آخر ..

وحسنا أنه لم يفعل . فقد ترك بطله ” قناوي ” يختلق الأحداث ويحرك الشخوص ويبتكر المواقف .. في فراغ عقله وليس أكثر من ذلك . باعتبار أن مشاكله مع البواب زغلون ومناكفات زوجتيه وشقيقته له من الأحداث الثانوية والتي لا تشغل الكثير من الرواية وإن كانت لها وظيفتها الدرامية ..!

وطالما الأمر كذلك بالنسبة للمؤلف ” الأستاذ قناوي ” فهو فقط يستعيد المواقف والمشاهد والحوارات من مسلسلات وأفلام جاهزة يراها على التليفزيون .. إذا ليس من الصعب مشاكلتها .. الموقف بالموقف والحوار بالحوار والمكان بالمكان .. ولدينا سلسلة أفلام ومسلسلات حرافيش نجيب محفوظ .. فليقتبس منها ما يشاء .

أتصور هذا ما فعله قناوي ؛ وإن لم يصرح به .. حتى نصل إلى نهاية رواية الدكتور كمال رحيم . وهناك المفاجأة الكبرى وما قرره المؤلف قناوي لبطله الذي صنعه وما حواه السيناريو .

***

لقد كان السيناريو _ يكاد _ يكون متكاملا في ذهن قناوي ، فكيف لا .. وهو شاغله الوحيد حتى أنه رآه في الحلم ..

( وكأنها الحارة .. حارة السيناريو ، لا الحارة التي يسكن فيها ، الشارع والبيوت والدكاكين التي رسمها في خياله ، غير أنها لم تكن واضحة المعالم ، كأنها مجرد هياكل تلوح في الضباب . ظهرت له في لقطة سريعة . انشغل بعدها بما وقع له … ) الفصل 22 صفحة 160.

***

وأمر آخر مثير للدهشة ” دهشتي أنا ” .

يورده الدكتور كمال في الفصل 28 صفحة 206 يقول :

( أشياء في السيناريو تشغل قناوي .. الأحداث ذاتها ، فهل لها بداية ونهاية ، وهل لها منطق درامي أم أن ما يأتي على ذهنه يرميه ( والسلام) على الورق ..؟

ماذا تعني هذه الفقرة ..؟ بداية تعني أن الدكتور كمال إنما هو موافق .. أو راضٍ أو غير ممانع من أن يكون الأستاذ قناوي كاتب سيناريو .. مبتدئ . وهو أمر هام لإستمرار كتابة ” الرواية نفسها ” وإلا تفتر الهمة وتبرد وتتحلل فكرة كتابة الرواية نفسها ” .

ثم .. وشخوص الرواية ، المليجي على وجه التحديد .

فجهارا نهارا يخرج عن النص ، ويقول ويفعل ما يَرِد على خاطره هو وليس الذي يفكر فيه قناوي . هو قادر على كبح جماحه ومنعه من أن يفعل أو حتى يقول إلا الذي يرضيه ، غير أنه يفاجأ بأن قلمه يجري أحيانا بما أراده المليجي وليس بالذي يريده هو ، وإلى الآن لا يعرف كيف تحدث معه هذه المسألة ، وحدث وراء حدث ومنه ما هو من صنعه ومنه ما هو من صنع المليجي … !!!

وبإحالة هذه الفقرة إلى الفقرة السابقة ( أما الأستاذ قناوي .. فهو حالة خاصة ، بل شديدة الخصوصية ؛ إذ يعتبر نفسه في عداد الأدباء المؤلفين ، ليس فقط ولكن المبدعين ..! وأنه ورث هذه الموهبة ” التأليف والحكي ” عن أجداده في صعيد مصر ) .

حتى آخرها .. فنتعجب ..!

لم لم يخط الأستاذ قناوي ما أبدعه على الورق سيناريو متكامل ” زمان ومكان ومواقيت وحوارات .. على الطريقة المتبعة لهذا النوع من الإبداع ..؟  واكتفى بأن سود صفحات بيضاء بخط يده .. ؟ وماذا يقصد الدكتور كمال بتركه هكذا مفكرا عنيدا فقط .. ولم يزده عن ذلك خطوة ..!

***

أرى أن الدكتور كمال مقتنع بموهبة الأستاذ قناوي كمؤلف مبدع ، ولكن على طريقة أجداده والآباء .. وليس لهم علاقة بالسيناريو .. وإن كانت حاويهم كلها سيناريو حي .

وإلى هذا الحد .. الأمر مقبول . ويصبح من ثم على الأستاذ قناوي أن يختار المقهى التي تعجبه في فرشوط أو في أي أحياء القاهرة الشعبية ويقص عليهم الحكاية ” السيناريو ” شفاهة . ولا حل غير ذلك . وعليه خلال الحكي أن يوضح لهم لم كان بينه وبين المليجي هذا الجفاء وهذا العناد .. ولم لم يستفد من خبرة الفتوة العجوز ( عم مفتاح ) ولم كان يستصغره في نظره ..؟

***

خواطر حول المليجي .. الرواية :

المكان    : حى دير الملاك من شمال القاهرة ، حيث يقطن المؤلف ” وحيث تقطن الشخوص في ذهنه .. هناك ” .

الزمان    : أيام وليالي الأستاذ قناوي بطولها .

الشخوص : نعرفهم كلهم .. فهم حولنا في كل الأحياء والشوارع كبيرها وصغيرها .. وخاصة في السنوات الأخيرة في ظاهرة تدعو للألم والدهشة معا . والتى تفاقمت فيها ظاهرة احتلال الشوارع والطرقات بالباعة وبضائعهم ، وجلهم من النواحي الريفية القريبة من القاهرة ، أو حتى البعيدة عنها ، وطائفة من الشباب القاهري ليس لهم حرفة أو عمل ..! معتبر . يأتون بحثا عن الرزق بعدما عدُم حيث يسكنون . تحت سمع وبصر ومعرفة تامة من الجهات الرسمية المسئولة عن النظام والتعليمات والبشر أولا .. ولكن ..!

لقد قتل الأستاذ قناوي بطله بيد من شاكله في المستوى الشعبي وبالمفهوم الشعبي أيضا . ولعل الدكتور كمال رحيم لم يجد إلا هذه النهاية .. بالإضافة إلى إسقاطات أخرى ، الاستثمار وهناك الأرض الفضاء ، ولو أن فلسطين لم تكن أرض فضاء عندما أغتصبها أبناء هارون . وحالة أمام الزاوية وما كان يخفيه من تطلعات لأتباعه أفشلها لهم المليجي وأتباعه .

وأنا .. لم يسعدني الحظ بعد ؛ لحضور مناقشة هذه الرواية الدسمة .. ولعله تتاح لي فرصة حضورها يوما .

احمد فتحي رزق

المشرف العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى